رسالة ابن طفيل “حي بن يقظان” في دائرة الأدب العالمي

مجلة التراث العربي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، العدد 154، صيف 2019، ص ص 129-142

ثمة مايشبه الإجماع بين باحثي الشرق والغرب على أن حي بن يقظان، الرواية الفلسفية الفريدة يمكن أن تعدّ أنموذجاً فذاً من النماذج الرفيعة للقصّ الشرقي العبقري-أنموذجاً صنعه فيلسوف من غرب العالم الإسلامي، هو ابن طفيل الأندلسيّ (المتوفّى عام 581ه/1185م) الطبيب والفقيه والأديب ومستشار الخليفة في آن معاً، والذي تَمَثّل فيه موروثَ القص الشرقي، وبخاصة قصتي ابن سينا “حي بن يقظان” و”سلامان وأبسال” اللتين استعار منهما عنوان روايته وشخصيتيهما الرئيسيتين، والموروثَ الفلسفي العربي-الإسلامي في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فكان عمله حصيلة رائعة لجهد تراكمي قائم على استيعاب الموروث وإعادة تشكيله وفق رؤية جديدة، هي إضافته النوعية لهذا الموروث. وقدم كل ذلك في قالب رواية فلسفية قصيرة حملت العنوان نفسه “حي بن يقظان“، عمل على تشكيلها خمس سنوات، فخرجت على يديه درّة لا نظير لها في الأدب العربي، ومعلماً بارزاً في تاريخ الأدب العالمي، إذ كان لها، منذ إنجازها، تاريخ أدبي فريد، فقد تجاوزت في تداولها زمن تأليفها، مثلما تجاوزت الأندلس في انتشارها في شرق العالَم وغربه، وتخطّت اللغة التي أُلِّفت بها فتُرجِمت إلى مختلف لغات العالم، واندمجت في ثقافاتها. وكان جواز تنقلها في العالمين القديم والحديث ما تنطوي عليه من فكر إنساني عميق، طالما شاغَل الكائن البشري الباحث عن نفسه وعن موقعه في هذا العالم وعن علاقته بخالقه.

لقد تحوّلت هذه الرواية الفلسفية القصيرة إلى مركز جذب وإشعاع في تاريخ الأدب العالمي: تجتذب من ناحية صفوة العقول البشرية، وتحفز تفكيرها، وتنشر من ناحية أخرى ضوع فنها، ونور استبصاراتها، في مختلف فنون القول، بل الفن عامة، وتمضي من الفن إلى الفكر والفلسفة تنشر التنوير في العالم الغربي الخارج من العصور الوسطى.

نعم لقد غدت هذه الرواية الفلسفية مصدر إلهام لكبار الأدباء في العالم الذين متحوا من محتواها الغني، وكان رائدهم في ذلك الروائي الإنكليزي دانييل ديفوDaniel Defoe ، الذي استلهم روايته روبنسون كروزو Robinson Crusoe من رائعة ابن طفيل، ثم لحق به روديارد كيبلنغ Rudyard Kipling (1865-1936) الذي ألف كتاب الغابة The Jungle Book (1894) والذي يحكي قصة ماوغلي Mowgli، وإدغار رايس بوروز Edgar Rice Burroughs (1875-1959) الذي ألف كتاب طرزان (1912)، ويان مارتل Yann Martel (المولود عام 1963) والذي ألف حياة بي Life of Pi عام 2001، وغيرهم. 

أما بالنسبة إلى تأثير الرواية  في الشعراء الرومنتيين البريطانيين فقد كان في غاية الأهمية، وهاهي سمر عطار، أبرز دارسي تأثير ابن طفيل في الفكر الغربي في عصر التنوير، تؤكد ذلك، مبينة كيف أن الشعراء الرومنتيين الإنكليز: 

“ولا سيما بليك Blake، ووردزوورثWordsworth ، وشيلي Shelly ، رددوا صدى هذه المشاعر في التزامهم بمبدأ الطبيعة الخيِّرة للإنسان، وأهمية التأمل المنفرد في الطبيعة، والبحث عن السعادة الروحية. وبهذا المعنى  فإن الشعراء الرومنتيين لم يثوروا على نحو كلي على أسلافهم. ويبدو أنهم قد اشتركوا وبحق في عدد من المبادئ مع ثقافة عصر التنوير. فمن المرجح أن ووردوورث قد تعلم من حي بن يقظان كيف يجعل النفس ذاتاً في شعره، وكيف يمجّد الطفل بوصفه أباً للإنسان، وكيف يكون متفائلاً بالمستقبل. ومن ناحية أخرى فإن من المرجح أن يكون شلي قد تعلّم من هذا الكتاب العربي كيف يلح على المساواة بين البشر كلهم، وكيف يسائل جميع الديانات التقليدية. ومع أن بليك هاجم العقلانيين في بداية حياته، وسخر من فولتيير وروسو، فإنه صحح موقعه في طور لاحق. فالعقل والحدس بالنسبة له، تمامأً كما هما بالنسبة لوردوورث وشلي، ينبغي أن يتوحدا بغرض الوصول إلى فهم أفضل للعالم”.

وعلى النحو نفسه “كانت رواية ابن طفيل، وكما يؤكد سِبَستيان غونْتر، مصدر افتتان عظيم بالنسبة للعلماء اليهود والمسيحيين في أوربا، وقد لاحظت دراسات حديثةُ العهد أن موسوعيين من أمثال ألبرتوس ماغنوس Albertus Magnus (1220-1280)، وتوماس الأكويني Thomas Aquinas (1225-1274)، وفولتير Voltaire(1694-1778)، وروسو  Rousseau(1712-1778)، وديدرو Diderot  (1713-1784) عرفوا عملَ ابن طفيل وقدَّروه حق قدره”. وكذا الشأن بالنسبة للكاتب الألماني غوتولد إفراييم ليسينغ Gotthold Ephraim Lessing (1712-1778)، الذي اطلع على رواية ابن طفيل بترجمتها اللاتينية وأفاد منها في معالجته الموسومة بـ “في أصل الدين الموحى” “Ueber die Entstehung der geoffenbarten Religion”. لقد وجد الجميع المصدر الملهِم لفكرة البحث عن الحقيقة والحق، عن الخلْق والخالق، وجسّدوها في صور في غاية التنوع والغنى.

شكرا على تصفحك واهتمامك بهذه المادة. لقراءة كامل المادة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *