الماركسية والنقد الأدبي: الأدب والتاريخ، تيري إيغيلتون (ترجمة)

مجلة الآداب الأجنبية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد 48، السنة 13، 1986، ص ص 101-100

البنيوية التشيكية- فوكيما (ترجمة)

الآداب الأجنبية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد (101- 102) - عدد مزدوج - شتاء وربيع 2000 السنة الخامسة والعشرون، ص ص 159-166

تابعت البنيوية التشيكية تراث الشكلية الروسية، ولكن هذه الأخيرة لم تكن بأي معنى من المعاني مصدر إلهامها الوحيد. وحتى إذا لم نأخذ بالحسبان البنيوية اللغوية لماثيسيوس Mathesius، وجاكبسون Jakobson، وتروبتسكوي Trubetzkoy، وأعضاء آخرين في حلقة براغ اللغوية (1926-1948)، فإن أصول البنيوية التشيكية عديدة ومتنوعة. وبصرف النظر عن العمل الذي قام به الباحثون التشيكيون في علم الجمال والفلسفة، فإن دراسة كريستيانس Christiansen لـ “بنية الموضوع الجمالي”، و”الخبرات الفروقية”، والتي قد أثرت لتوها في شكلوفسكي Sklovskij، وبرنشتاين Bernstein، قد ألهمت التشيكيين أيضاً. وبالطبع فإنه لايمكن عزل كريستيانسن عن التراث الألماني في البحث المتناول لمسألة الصلة بين الكل وأجزائه والتي أنتجت استبصار شيلنغ Schelling في “أنه في العمل الفني الحقيقي ليس ثمة من جمال فردي، فالكل وحده هو الجميل”. وأخيراً فإن هوسرل Husserl، وبوهلر Bühler، وسوسور Saussure -في حقل السيميائيات- مرهصون معترف بهم. وعلى الرغم من أن أصول البنيوية التشيكية يمكن أن تُتَقَفّى إلى مصادر نهل منها الشكليون الروس أيضاً، فإن على المرء أن يفترض أن لدى التشيكيين مدخلاً أكثر مباشرة للتراث الألماني. وعلى أي حال، فإن البنيويين التشيكيين، وفي مناسبات مختلفة، قد أقروا بشكل صريح بدينهم للشكلية الروسية. ومحاضرة موكاجوفسكي “في الشعرية المعاصرة” (1929) تقرير أمين عن الشكلية الروسية.

وجان موكاجوفسكي Jan Mukarovsky (1891-1975) واحد من أبرز البنيويين التشيكيين في ميدان دراسة الأدب. وقد طوّر أطروحة تينيانوف Tynjanov في أن الدراسة الداخلية للنص الأدبي مستحيلة من حيث المبدأ، وأفصح عن نفسه أكثر من الشكليين الروس حول مشكلات علم الجمال. وقاده ذلك إلى تعريف الموضوع الجمالي “Aesthetic object” بطريقة تنسجم مع الاستبصارات الرئيسية لكل من الشكليين الروس وكريستيانس.

D.W. Fokkema, “Czech Structuralism”, in

D.W. Fokkema and Elrud Kunne- lbsch,

theories of literature in the Twentieth Century (C. Hurstand Company, London, 1977), PP. 30-8

ناقش موكاجوفسكي مفهومه للفن بوصفه “حقيقة سيميائية” “Semiological fact”، في إسهامه للمؤتمر الدولي الثامن للفلسفة في براغ (1934). وهو يزعم أن الفن علامة Sign، وبنية Structure، وقيمة Value، في آن معاً. فإذا مانظر إليه على أنه علامة، فإنه يمكن تمييز وجهين فيه: الرمز الخارجي أو الدال Signifiant ممثّلاً لمعنى ما، والمعنى ممثّلاً أو المدلول Signifié. ولا يمكن ردّ العمل الفني إلى وجهه الدلالي أو “المادي”، لأن عمل الفن المادي، أو النتاج الفني Artefact، علامة لاتكتسب دلالة إلا من خلال فعل الإدراك وحده. فموضوع علم الجمال ليس النتاج الفني (الدال)، وإنما “الموضوع الجمالي” (المدلول)، أو “تعبير النتاج الفني في وعي المدرك ومعادِله”.

وإذ تتغير الخلفية الثقافية والاجتماعية التي يدرك النتاج الفني إزاءها، فإن تفسير العمل الفني وتقويمه يتغيران تبعاً لذلك. ففي دورة تاريخ الفن أنشئت موضوعات جمالية مختلفة على أساس من النتاج الفني نفسه. إن تعدّدية التفسيرات التي يمكن أن تعزى للنتاج الفني في أحوال مختلفة ينبغي أن تعتبر رصيداً للعمل الفني. وتعددية تفسيرات كهذه تتيسّر بـ “تعدّدية النتاج الفني وتنوعه وتعقده”. ولا تشكل جميع التفسيرات الفردية الموضوع الجمالي. إن الموضوع الجمالي فقط هو ماتشترك به التفسيرات الفردية -والتي هي ذاتية بالضرورة- لمجموعة معينة من المتلقين، بمقدار اعتماد هذه التفسيرات على النتاج الفني.

ويعدّ موكاجوفسكي العمل الفني “علامة مستقلة” “autonomous sign”، تتميز بوظيفة التوسّط بين أعضاء المجموعة نفسها وحسب. ولذا فإن العمل الفني لايشير بالضرورة إلى الواقع المحيط بنا وينبغي أن يكون ذا معنى مفهوم من جانب المرسل والمتلقي، ولكنه لايحتاج إلى أن يشير إلى موضوعات أو حالات حقيقية. وقد يكون له معنى غير مباشر أو مجازي بالنسبة إلى الواقع الذي نعيشه. والعمل الفني “لايمكن أن -يستخدم أبداً بوصفه وثيقة تاريخية أو اجتماعية، مالم تكن قيمته الوثائقية، أي طبيعة صلته بالسياق الاجتماعي، قد حُدِّدث”. وبصرف النظر عن الوظيفة المستقلة للعمل الأدبي، والتي تتفق تماماً مع النوع الثالث للحقيقة عند شبيت Spet، أو التخييلية fictionality، فإن موكاجوفسكي يُحاجّ أن للعمل الأدبي أيضاً وظيفة توصيلية، لأنه يتألف من كلمات تفصح عن أفكار ومشاعر وتصف حالات. ويخلص موكاجوفسكي إلى أن العمل الفني الفردي، وتاريخ الفنون أيضاً، يتميزان بالتضاد الجدلي بين الوظيفة المستقلة للفن ووظيفته التوصيلية. وقد تمت متابعة هذا الموضوع بنجاح كبير من جانب لوتما Lotman. إن موكاجوفسكي -في إسهامته القصيرة عن الفن بوصفه حقيقة سيميائية- يبدو سيميائياً مكتملاً يزعم أن العلوم الإنسانية تدرس المواد التي تتألف بمجملها من العلامات.

وعلى خلاف رومان إنغاردن Roman ingarden، الذي سيناقش قريباً، فقد درس موكاجوفسكي العمل الأدبي بشكل رئيسي بوصفه جزءاً من عملية توصيلية وثقافية أوسع. ومفهومه للأدب مطبوع بالدينامية كما هو الشأن لدى تينيانوف الذي يستشهد به غالباً. وقد زعم، مثله في ذلك مثل تينيانوف وشكلوفسكي، في دراسته “الوظيفة الجمالية، والمعيار، والقيمة بوصفهما حقائق اجتماعية” أن الإمكانية الجمالية غير متأصلة، أو على الأقل غير متأصلة بشكل تام، في الموضوع وعلى الرغم من “أن هناك شروطاً مسبقة معينة في الترتيب الموضوعي لموضوع ما (يحمل الوظيفة الجمالية) تُيسِّر إثارة المتعة الجمالية”. ويزعم موكاجوفسكي أن “أي موضوع أو عمل، بغض النظر عن كيفية تنظيمه” يمكن أن يكتسب وظيفة جمالية، ويغدو بالتالي موضوعاً ذا متعة جمالية. إن التقويم الجمالي مرتبط بتطور المجتمع، أو، باختصار، بمعطيات سوسيولوجية وأنتروبولوجية تشكل خلفية للتقويم الذي يأخذ مكانه إزاءها. إن للوظيفة الجمالية طابعاً دينامياً، ويمكن أن تختلف باختلاف الشروط التي يتم فيها إدراك الموضوع، والوضع الخاص (Einstellung) بالمستقبل. الوظيفة الجمالية إذن هي قوة أو طاقة تتخذ شكل الاهتمام الذي يتمركز على العلامة نفسها. ويدعو موكاجوفسكي “تركيز الوظيفة الجمالية على العلامة نفسها” عاقبة للاستقلال الذي يميز الظاهرة الجمالية، ولكن يمكن المرء أن يرى الاستقلال عاقبة للتركيز على العلامة نفسها، أويفترض، بأسلوب موكاجوفسكي، علاقة جدلية بين التركيز على العلامة نفسها وبين الطبيعة المستقلة لهذه العلامة.

إن الوظيفة الجمالية هي القوة التي تخلق القيمة الجمالية، في حين إنه في الحالات التي لاتسود فيها الوظيفة الجمالية، لاتثار قضية القيمة الجمالية.

إن موكاجوفسكي، في مناقشته للصلة بين القيمة والمعيار norm، وفيّ وبثبات للتراث الشكلي، ولاسيما في مفهوم الانزياح “deviation” أو التشويه deformation. ولايشكل الإذعان للمعيار الجمالي ضمانة للقيمة الجمالية. والمعيار مستمد من القيم الجمالية وهو مبدأ تنظيمي خارج الفن. وفي خارج الفن تعتمد القيمة الجمالية على تحقيق المعيار. وضمن الفن يخرق، وإلى حد ما، المعيار الجمالي السائد، ونتيجة لقيم جمالية ظاهرة يُخلق معيار جديد على نحو جزئي أو تام. إن القيمة الجمالية ليست مفهوماً سكونياً، ولكنها عملية تتطور مقابل خلفية التقليد الفني الفعلي، ومن خلال صلتها بالسياق الثقافي والاجتماعي المتغير أبداً.

إن دينامية هذه المفاهيم، في الوظيفة الجمالية، والقيمة الجمالية، والمعيار الجمالي، غير ممكنة، إلا على أساس مفهوم للموضوع الجمالي بوصفه نتاجاً فنياً مفسَّراً. وآراء موكاجوفسكي تفترض مسبقاً أن الموضوع الجمالي ليس شيئاً ثابتاً (أو لامتغير)، ولكنه محدّد من جانب كل جيل أو مجموعة من المستقبلين.

وعندما يواجه موكاجوفسكي أخيراً قضية فيما إذا كانت القيمة ذات أساس موضوعي، فإنه لايستطيع إلا أن يستنتج أنه إذا ماوُجدت القيمة الجمالية الموضوعية على الإطلاق، فإنه ينبغي أن تلتمس في النتاج الفني المادي، غير الخاضع للتغيير، وذلك على النقيض تماماً من الموضوع الجمالي. ولكن القيمة الجمالية المتأصلة في النتاج الفني تتسم بطابع الوجود بالقوة. إن القيم الجمالية لايمكن أن تنسب في الحقيقة إلا إلى الموضوع الجمالي والذي هو تجسيد concretization، أو تحقيق realization للنتاج الفني من جانب المستقبل. وعلى الرغم من ذلك فإن بعض النتاجات الفنية تكون أكثر ميلاً من غيرها لتتجسد موضوعاً جمالياً.

ويفترض موكاجوفسكي أن “قيمة نتاج فني ستكون أعظم بدرجة عظم مجموعة القيم فوق -الجمالية Extra-aesthetic التي تجتذب، وبدرجة قدرتها على تكثيف دينامية الصلات المتبادلة فيما بينها”. وربما لايكون هذا المفهوم للقيمة الجمالية مرضياً جداً. وقد انتقد بشدة من جانب ويليك Wellek. ولايبدو أن محاولات موكاجوفسكي الأخرى لتخصيص مكان للقيمة الجمالية الموضوعية قد حلّت المسألة. وبصرف النظر عن “تعددية النتاج الفني المادي، وتنوعه، وتعقيده” والتي يعدّها [موكاجوفسكي] أرصدة جمالية ممكنة، فإنه يعدّ القيمة الجمالية المستقلة لنتاج فني ما “أسمى وأكثر دواماً إلى درجة أن العمل لاينقاد إلى تفسير حرفي من وجهة نظر للقيم مقبول عامة في فترة أو بيئة ما”. إن موكاجوفسكي يقترب هنا من مفهومي الغموض Ambiguity وموضع اللبس Unbestimmtheitsstelle دون ذكرهما.

وربما كان بإمكان موكاجوفسكي أن يكون أكثر حكمة لو تخلى كلية عن بحثه عن القيمة الجمالية الموضوعية عندما تصوّر على نحو صحيح أن للقيمة الجمالية للنتاج الفني طبيعة ممكنة فقط. إن قيمة ممكنة بالقوة هي شرط ممكن للقيمة وليست شرطاً كافياً لها. وكما هو شأن مايسمى “بالقيمة التطورية” “Evolutionswert” التي تتحدّد بتأثير عمل أدبي في التطور الأدبي الدينامي، فإن القيمة الممكنة بالقوة إنشاء مجرد abstract construction لمؤرخ أدبي، وليست نتيجة عملية توصيلية. إن النظرية الحديثة للقيمة ترى القيمة مفهوماً علائقياً، مفهوماً يتشكل بالصلة مابين موضوع ومستقبل. وعلى الرغم من أن موضوعات معينة أكثر تأهيلاً لاعتبارها أكبر قيمة من غيرها، فإن النتاج الفني بوصفه فكرة غير قابلة للتغيير ومعزولة عن أي استقبال، لاتستطيع أن تدخل قط في صلة ما مع مستقبل ما، وبالتالي فإن قيمتها الجمالية -إذا ماكانت ذات قيمة- لايمكن أن تعرف.

وفي مقالة الجرد “البنيوية في علم الجمال وفي دراسة الأدب” يُعيد موكاجوفسكي تعريف مفهوم البنية Structure، ويضيف إلى الفكرة المألوفة في أن بنية ما أكثر من مجرد مجموع أجزائها أن “الكل البنيوي يعني كلاً من هذه الأجزاء، وأن كلاً منها، وعلى نحو معكوس، يعني هذا الكل وليس أي كلّ آخر”. وخصيصة أخرى لبنية ماهي “طبيعتها النشطة والدينامية” الناجمة عن حقيقة أن كل عنصر فيها له وظيفة محدّدة يرتبط من خلالها بالكل، وأن هذه الوظائف وصلاتها المتبادلة فيما بينها تخضع لعملية تغيير، ونتيجة لهذا فإن البنية بوصفها كلاً ماتكون في حركة دائمة.

وينبغي التأكيد أن موكاجوفسكي يتحدث هنا عن مفهوم البنية في دراسة الأدب، أي في عملية توصيلية، تؤدي فيها- عندما تتم- عوامل الزمن، وبالتالي الشروط المتغيرة، دوراً معتبراً. إن مفهومه للبنية يقترب كثيراً من مفهوم العضوية البيولوجية biological organism.

وبنية الموضوع الجمالي تخضع لعملية التغيير، ولكن أي العوامل يحدد هذه العملية؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال يؤيد موكاجوفسكي موقف تينيانوف وجاكبسون (1928) اللذين يعتقدان بأن الدراسة الداخلية للتاريخ الأدبي لايمكن أن تشرح السرعة الخاصة للتطور الأدبي أو اختيار اتجاه معين، حيث تكون عدة اتجاهات ممكنة من الناحية النظرية. إن مشكلة الاتجاه، أو الاتجاه السائد dominont direction، لايمكن أن تحل إلا من خلال تحليل للصلات المتبادلة فيما بين السلاسل الأدبية والسلاسل التاريخية الأخرى. ويضيف موكاجوفسكي أن كل تغيير في بنية أدبية يجد حافزه خارج تلك البنية المعينة. ولكن الطريقة التي يُستقبل فيها حافز خارجي والتأثير العام لهذا الحافز يتحددان بالشروط المتأصلة في البنية الأدبية.

لقد كان تحليل النصوص الأدبية المحددة، وليس التنظير الأدبي، الشغل الشاغل الرئيسي للشكليين الروس. وقد تابع موكاجوفسكي والبنيويون الآخرون، بشكل عام، هذا التقليد. ودراساتهم لماشا Màcha وتشابك Capek مشهورة، ولكنها إذ كانت مكتوبة بالتشيكية وعن مؤلفين تشيكيين فإنها لم تكد تُقدَّر خارج تشيكوسلوفاكيا لأسباب واضحة. وبالتدريج أصبحت الحاجة إلى مقدمة للدراسات البنيوية المختلفة أكثر إلحاحاً. وبحلول عام 1934 قُدِّم اسم “البنيوية”، الذي وصفه بوكاجوفسكي فيما بعد “وجهة نظر” ابستمولوجية (معرفية)، متجنباً بذلك مصطلحي “النظرية” و”المنهج”. إن “النظرية” في رأي موكاجوفسكي تعني مُركبَّاً ثابتاً من المعرفة، و”المنهج” يعني قواعد الإجراء العلمي غير القابلة للتغيير. والبنيوية معرفياً (ابستمولوجياً) تعني ضمناً مجرد قبول للرأي القائل بأن مفهومات نظام علمي معين مرتبطة بعضها ببعض. وهي لاتقبل أولية المادة المفحوصة (الموضوع). وبهذا الوجه تختلف البنيوية عن النزعة الوضعيةpositivism، كما يقول موكاجوفسكي الذي ينتقد في الواقع دفاع آيخنبادم Ejchen baum عن المنهج الفرضي hypotheticl المقبوس آنفاً. وموكاجوفسكي من جهة أخرى لايجزم بأوّلية أي من الإجراء العلمي أو المنهج. ومبدأ الصلات المتبادلة يُطبّق هنا أيضاً. فقد تؤثر المادة الجديدة في مناهج الفحص، وقد تكتشف المناهج الجديدة مادة جديدة.

ولما كان موكاجوفسكي لايسائل وجهة نظره البنيوية أو يقوم بمحاولة جادة لاختبارها، فإنها قيمة value أكثر منها فرضيّة Hypothesis. ولكن تأملاته المعرفية لم تصل قط إلى هذه النتيجة.

وبعد الحرب العالمية الثانية، وربما نتيجة ضغط الظروف السياسية، زوّد موكاجوفسكي مفهومه للبنيوية بأساس مادي. وقد أُقِرّ الآن بأوّلية المادة المتفحصة. و”البنية” التي كانت عام 1940 لاتزال كياناً مفهومياً تدعمه مواصفات معينة للمادة، غدت الآن ظاهرة موضوعية تتبع العالم الحقيقي. وهذا التطور في تفكير موكاجوفسكي، والذي ناقشه ويليك، لم ينتج إسهامات جديدة في دراسة الأدب.

وعلى الرغم من أننا قد قصرنا مناقشتنا للبنيوية التشيكية على الناطق الرئيسي باسمها، فإن هناك آخرين كثيرين انتموا إلى المدرسة التشيكية. وقد مُثِّل بوهُسلاف هافرانك Bohuslav Havrànk، وفيلكس فودتشكا Felix Vodicka وآخرون في مختارات حرّرها غارفن Garven. ولكن إسهامات الجيل الأصغر لم تتيسر إلا مؤخراً في اللغات الأدبية الغربية. وقبل ذلك فإن الباحثين في الاتحاد السوفييتي تعرّفوا نتاجات الطور اللاحق للبنيوية التشيكية بسهولة أكثر من زملائهم في الغرب.

وينبغي الإدلاء بملاحظة أخيرة عن الفيلسوف البولوني رومان إنغارون “Roman lngarden الذي صمّم نظرية للعمل الأدبي متبعاً بإخلاص تعاليم هوسرل Husserl. لقد كان كل من إنغاردن وموكاجوفسكي على معرفة عميقة بالتراث الفلسفي الألماني. وكان كلاهما من نقاد النزعة الوضعية. وكان إنغاردن الأكثر تصريحاً في رفضه للنزعة الوضعية الجديدة للمنطق الرمزي البولوني (والتي استشفها مبكراً عام 1919) ولحلقة فيينا.

وثمة مشابهات أكثر، ولكنها أقل وضوحاً. فعلى الرغم من أن كلمة “بنية” تظهر لدى إنغاردن، فإنها تستعمل بطريقة مخففة، وإدمان إنغاردن على علم الظواهر Phenomenology يظهر كل صفحتين من كتاباته، في حين إن موكاجوفسكي لايُعبّر إلا نادراً عن تفضيله للمنهج الظاهراتي. ويميز موكاجوفسكي بين النتاج الفني “المادي” وبين الموضوع الجمالي، ويكرّس جلّ طاقته لدراسة هذا الأخير. ويميّز إنغادرن، وعلى نحو مشابه، بين العمل الفني “المادي” وبين الموضوع الجمالي (أو الـ نethetischer Gegenstand كما يدعوه) الذي هو التعبير عن العمل الفني في صورة تجسيد صحيحة يقوم بها قارئ كفء، ولكنه يكرّس جلّ وقته لفحص الأول منهما (أي العمل الفني المادي). وبينما آمن موكاجوفسكي، متابعاً بذلك شكلوفسكي وتينيانوف، بمفهوم دينامي للتاريخ الأدبي، فقد درس إنغاردن بشكل رئيسي العمل الأدبي معزولاً وبوصفه كياناً سكونياً. ويعتبر موكاجوفسكي إثارة “النتاج الفني” لعدة تجسيدات مميزة. ولم يؤيد إنغاردن هذا الرأي إلا بتردد. واستمر في الوقت نفسه في بحثه عن إمكانية نظرية لتجسيد واحد كاف.

ولايكاد إنغاردن يقبس مطلقاً من الشكليين الروس، وربما لم يعرف إلا القليل عن عملهم عندما كتب مؤلفه “العمل الفني الأدبي” Das Literarische Kunstwerk والذي كان حصيلة بحث أجري عامي 1927-1928. ومع ذلك فإن المرء قد يجد مفاهيم ومصطلحات في منشورات إنغاردن يبدو أنها تستعيد في الذهن مصطلح الشكليين. فعندما يدعو “الانتباه المركّز “intensified attention” (geschنrfte Aufmerksamkeit) شرطاً مسبقاً للتذوق الجمالي، فإن المرء ربما يشك بوجود صدى لشكلوفسكي أو جاكبسون، ولكن ليجد هامشاً يشير إلى فولكيلت Volkelt. ولاريب في أن مصادر إنغاردن، وموكاجوفسكي، والشكليين الروس، هي نفسها في الغالب، وبخاصة الفلسفة وعلم الجمال الألمانيين. ويجب على المرء هنا ألا يتسرع في الحكم على أصالة كل منهم.

وثمة فجوة عميقة تفصل إنغاردن عن الشكلية الروسية والبنيوية التشيكية، هي بالتحديد إيمانه بإمكانية العثور على شروط التجسيد الجمالي في العمل الفني المادي. وقد قام موكاجوفسكي بمحاولة مشابهة عندما حاول أن يكتشف الإمكانية الجمالية في خصائص معينة من خصائص النتاج الفني. ولكن المحاولة -في حالة موكاجوفسكي- كانت غير مجدية، بل وحتى فوضوية إذا ماقورنت باهتمامه الملحّ بالطبيعة الدينامية للعمل الأدبي والنظام الأدبي.

إن إلحاح موكاجوفسكي على الوجوه الدينامية للعمل الأدبي يمثل التطور الأخير للبنيوية. ويبدو أن إنغاردن وموكاجوفسكي كليهما كانا منحازين، وعلى نحو متساو، ولكن بطرق مختلفة، في محاولتيهما حلّ مشكلة الصلة بين النتاج الفني والموضوع الجمالي، أو التجسيد الكافي adequate concretization. ويبدو لنا أن التعادل بين المدخلين المستقل والدينامي لم يُستعَد إلا في المنشورات الحديثة العهد للسيميائيات السوفيتية، وبشكل ملحوظ، منشورات لوتمان.

الاستشراق – الطريق إلى المغرب: قراءة في الاستشراق ‏ – ألبرت حوراني (ترجمة)

مجلة التراث العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق العدد السابع – السنة الثانية –نيسان 1982