من محاورات النقد

جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1102 تاريخ 10/5/2008

قال لي صاحبي وهو يحاورني: لعلك تأذن لي بسؤال أرجو ألا يغضبك.‏

قلت: هات سؤالك، ولا تخافنّ غضبي، فأنا محب للأدب ومنتجيه، ولا أدلّ على محبتي هذه من انصرافي إليه في معظم ما انصرم من عمري.‏

قال: ما الذي يعطيكم الحق –أنتم معشر النقاد- في النظر إلى ما يكتبه الآخرون: تشرحونه، وتفسرونه، وتحكمون عليه، وعلى من خطّه أحياناً، بأهوائكم وما في نفوسكم وعقولكم من أفكار ومعايير ومقاييس وقيم ومبادئ ومثل مسبقة؟‏

قلت: سؤالك أهون من أن يثير غضبي، والإجابة عنه أيسر مما تعتقد، على الرغم مما ينطوي عليه من تشكيك مبطن لا مسوّغ له.‏

فأما حق النظر إلى ما يكتبه الآخرون فقد كفله لي حق النشر الذي منحه هؤلاء الآخرين لأنفسهم. فما دام الأدباء قد أعطوا هذا الحق لأنفسهم ونشروا ما نشروا، فإن من حقي أن أقرأه وأتدبره بكل ما تيسر لي من أدوات الشرح والتحليل والتفسير والموازنة والمقارنة، وأن أحكم بعد ذلك له أو عليه.‏

وأما إشارتك إلى أن حكمي قد يطال “الآخرين”، فهذا وهم أرجو أن أبددّه بالتأكيد أن جهدي النقدي ينصرف إلى ما كُتِب، لا إلى من كتب، وهذا عدل فأنا أنقد فيك ما تملك، وهو عملك، ولا أقرب فيك ما لا تملك، وهو شخصك.‏

وأما تعريضك بنا عندما تذكر أننا نحكم بأهوائنا، فهو نقطة ضعف يشكو منها الكثير مما ينتجه نقاد العرب وغيرهم، ولكنها قابلة للتجاوز إذا ما ترك الناقد بينه وبين ما ينقد مسافة أمان، وسوّغ أي حكم نقدي يطلقه على النص الذي بين يديه بما يكفي من أدلة نصية، أو عقلية، أو فوق نصية Extra-textual مستمدة من سياق النص الآني، والثقافي، والإشاري لما ينقده. ولا تنسى أن المرء يحاكم الأمور بما تراكم لديه عبر السنين من معرفة وعلم وخبرة وتجارب، ويحكم بالتالي على ما يتدبره من نصوص استناداً إلى هذه القاعدة المعرفية التي يتفاوت غناها بين ناقد وآخر تبعاً لتكوينه الثقافي، الذي يمتد من المهد إلى اللحد، وعملية التعلّم عملية مستمرة، كما تعلم، ونحن نتعلّم بالمدارسة والممارسة، نتعلم من حياتنا في المدرسة والمؤسسات التربوية والتعليمية المختلفة، ونتعلم مما نكتسبه من مدرسة الحياة.‏

قال: ينطلق الناقد إذن من تكوينه الثقافي وخبرته وتجاربه في الحكم على نتاج الآخرين، وهذا حق وواقع لا يمكن تجاهله، ولكن هل من العدل أن نحكم على “الآخرين” بمقاييس ومعايير وروائز وقيم ومثل ومبادئ مستمدة من خبراتنا وتجاربنا التي قد تباين وتختلف عن خبراتهم وتجاربهم؟‏

قلت: ربما كان في سؤالك بعض الحق، ولكن هل نملك غير ما اكتسبناه عبر سنوات عمرنا من معرفة وعلم وخبرة لنتدبّر به نتاج “الآخرين”؟ حسبنا، يا صديقي، أننا نستند في أحكامنا إلى المعرفة والعلم والخبرة، فضلاً عما يداخل عملنا من سلامة الطوّية، ونبل الغاية، وسمو الهدف. فنحن، بوصفنا بشراً، محكومون بالبحث عن هامش “الأفضل، والأحسن، والأجود، والأسمى، والأنفع” للبشرية، ولأننا نعمل فإننا معرضون للخطأ، و”أي الرجال المهذّب”. إننا نقنع بأجر واحد من اجتهادنا إن أخطأنا، ولكننا نطمح، بل نسعى، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، إلى أن نكون جديرين بالأجرين معاً، ولكل مجتهد نصيب.‏

قال: أنت محكوم بتكوينك الثقافي وخبرتك وتجاربك، وغيرك كذلك، وتودنا أن نغفر لك اجتهاداتك غير الصائبة عندما تخطئ، فهل نملك كذلك فسحتك ذاتها، ونطمع عندها في أجرين إن أصبنا، وأجر واحد إن أخطأنا؟‏

قلت: هذا عدل، وقد حرّم الله الظلم على نفسه، وجعله بيننا محرماً، ومن الطبيعي ألا نتظالم فيما بيننا، وأن نتسامى على ما يراود نفوسنا من رغبة في الظلم عندما نقدر عليه، ولنتذكر قدرة خالقنا، ونتأسى به وهو الخالق البارئ.‏

قال: إذن أنت تؤمن بأن لي حريتي ولك حريتك، أنا حر فيما أكتب، وحرّ في أن أنشر، وأنت حرّ فيما تقرأ، وحر في أن تنقد.‏

قلت: صدقت، ولكن تذكر أن هذه الحرية ينبغي أن تكون مشفوعة بالمسؤولية، فنحن نعيش معاً في مجتمع يقرؤنا ويحاسبنا ويكافئنا، ولا سبيل إلى تجاهل هذه الحقيقة، والأدب والنقد، كلاهما، إنشاء اجتماعي، لأنهما ينتجان بأداة اجتماعية هي اللغة الطبيعية، التي لا توجد إلا بوجود المجتمع.‏

قال: صدقت، ولكنك أثرت في إشارتك الأخيرة هذه شؤوناً وشجوناً، سنترك تدبرها إلى محاورة أخرى يتسع لها وقتك وصدرك.‏

قلت: وهل نملك غير سعة الصدر، ورحابة الأفق، وبعد النظر، نتقي بها الزلل والخطأ والإسراف على النفس.‏