ابن رشد في شرحه الوسيط لفن الشعر لأرسطو: ماله وما عليه

مجلة التراث العربي، العدد المزدوج 159-160، 2020-2010، ص ص 37-60

يلاحظ الدارس لتلقي عمل ابن رشد “التلخيص الوسيط” الذي قدّم فيه شرحه لكتاب أرسطو” فن الشعر” أن ثمة بوناً شاسعاً ما بين التقويم المُجحِف للباحثين العرب الحديثين لهذا العمل الصوّة في تاريخ النقد العالمي، وبين تقويم الباحثين الغربيين، الذين ظلوا يشاغلونه بترجماتهم ودراساتهم وأبحاثهم، ويناقشون ما أسهم به في النقد الأوربي على مدى عدة قرون، بل يرونه مصدراً مهماً من مصادر تحقيق فن الشعر الذي تأخرت نسخته المحققة تحقيقاً دقيقاً يأخذ بالحسبان جميع الشواهد المتاحة على نصه في مختلف اللغات القديمة والوسيطة حتى عام 2012م عندما قام باحثان أمريكيان بإخراج نسخة يمكن الاطمئنان إلى نسبتها إلى أرسطو من ناحية، مثلما يمكن الوثوق بصحة نصها من ناحية أخرى. وقد قامت دار النشر الهولندية بريل بنشرها وإخراجها في طبعة مزدوجة اللغة (باليونانية والإنكليزية) مع تعليقات نصية دقيقة على النص اليوناني قدمها واحد من أبرز المختصين بالعلاقات الثقافية العربي – اليونانية هو ديمتري غوتاس صاحب كتاب: فكر يوناني- ثقافة عربية: حركة الترجمة اليونانية-العربية في بغداد وأوائل المجتمع العباسي (القرون الثاني-إلى الرابع  ه/الثامن إلى العاشر م) الذي قام بترجمته إلى العربية الدكتور نقولا زيادة قبل رحيله.

ويبدو أن السبب في هذا البون بين تقويم الباحثين العرب الحديثين وبين تقويم نظرائهم في الغرب هو النظرة السطحية التي سادت تدبّر معظم الأولين لـ التلخيص الوسيط، والتي رأت فيه مجرد تلخيص لترجمة تمّت عن طريق لغة وسيطة قام بها جاهل للغتين وللأدب اليوناني، في حين كانت نظرة الآخرين نظرة متعمِّقة أحاطت بظروف انتقال الكتاب عبر الزمان والمكان والثقافات، وتبينت غرض ابن رشد من تلخيصه أو بالأحرى شرحه، والأهم من ذلك كله فهمهم لهذا التلخيص على أنه شرح، ومن ثم، فإنهم تعاملوا معه على أنه يُعبِّر عن فهم فيلسوف عربي مسلم لفيلسوف يوناني وثني، وأن ابن رشد أراد أن ينتقل بآراء أرسطو، المحكومة أساساً بنصوص الأدب اليوناني، إلى دائرة أوسع من المتن الأدبي العالمي، فينظر في القوانين العامة للشعر التي تصلح لكل زمان ومكان، وما يمكن، من ثم، أن تفيد الشعر العربي وشعر الأمم الأخرى.

لمتابعة القراءة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!

ملامح عربية-إسلامية في سوناتات الحياة الجديدة لدانتي

فصل في كتاب "دراسات وبحوث مهداة إلى الدكتور أحمد الهواري"، تحرير: خالد فهمي ووجيه يعقوب، (الوادي للثقافة والنشر، القاهرة، 2021).

هل يعد دانتي أليغيري (1265-1321) صاحب “الكوميديا الإلهية“، وأمير أدباء إيطالية-عصر النهضة، أديباً عالمياً؟ وهل ثمة ما يؤهله للدخول إلى دائرة الأدب العالمي؟

إذا كان من شروط التأهل لهذه المنزلة تجاوز ما ألفه الأديب من أعمال أدبية في انتشاره حدي الزمان والمكان، وعائقي اللغة والثقافة، فإن دانتي المقروء على نحو واسع في مختلف أنحاء المعمورة، وعلى مدى القرون العديدة التي مرت بعد رحيله عن عالم الدنيا، والمترجَم إلى مختلف، بل أغلب اللغات الحية، بما فيها اللغة العربية، والمحتفى به نقدياً، ومقارنياً في مختلف التقاليد الأدبية، ولا سيما التقليد الأدبي المقارني العربي من خلال دراسة صلات رائعته التي خلدته بالمرويات الإسلامية المتصلة بالعالم الآخر (المعراج، والفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي، وغيرهما) والنصوص المقدسة (القرآن الكريم)، والروائع العربية (رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ورسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي)، يحمل جواز سفر رفيع يؤهله للدخول وهو مرفوع الرأس فخراً واعتزازاً بمنجزاته، التي منحته أعماراً عديدة بعد موته، إلى محراب الأدب العالمي، بل والفن العالمي، والثقافة العالمية الإنسانية كذلك.

والواقع أن ثمة إجماعاً عالمياً على قوة تأثير دانتي المستمر والواسع والغني والمتنوع، والممتد أكثر من ستة قرون،  في مختلف الثقافات والآداب العالمية منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا. ذلك أن تأثيره قد امتد إلى:  

  • مختلف الآداب القومية: الأوربية وغير الأوربية؛
  • ومختلف المعارف الإنسانية التي كان لدانتي، بوصفه رجلاً متميزاً من كبار رجال عصر النهضة، إسهام مهم فيها؛
  • ومختلف الفنون الجميلة ولاسيما الرسم والنحت والموسيقى  والغناء؛ 

ويكفي أن يذكر المرء أن تأثير دانتي في الآداب المكتوبة بالإنكليزية، يشمل، على سبيل المثال، أعلاماً من مثل جفري تشوسر،  وفيليب سيدني، وجون ميلتون، وجيرمي تيلور، والسير ت. براون، وجوناثان ريتشادسون، وتوماس غراي، وويليام بليك، ولورد بايرون، وشيللي، وتوماس كارلايل، وإزرا باوند، وت. س. إليوت، وويليام بتلر ييتس، وجيمس جويس، وصموئيل بيكيت وغيرهم؛ وأن ترجمات الكوميديا  الإلهية بأجزائها الثلاثة إلى الإنكليزية أكثر من أن تحصى، وأن الدراسات والشروح والأبحاث والرسائل الجامعية المتعلقة بدانتي وآثاره والمتيسرة بهذه اللغة بحاجة إلى عدة مختصين لمسحها وتقويمها، حتى يتبين استحالة دراسة تأثير دانتي في أدب قومي واحد، بَلْهَ عِدَّة آداب قومية، أو الأدب العالمي عامة.

ولما كان التأثير الواسع لدانتي وآثاره في مختلف الآداب والفنون والمعارف الإنسانية مستمر لم يعرف أي فتور على مدى القرون الستة ونيف فربما كان من العبث أن يفكر المرء في أن يكتب  بمفرده بحثاً عن جذور هذا السحر الذي يتمتع به أدب دانتي والذي يتجاوز الحدود اللغوية، والقومية، والزمانية، والمكانية، والمعرفية، لأن بحثاً كهذا بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الفرق البحثية التي يمكن أن تتفحص فُسَحَ هذا التأثير في مختلف التقاليد الثقافية والأدبية القومية وتحدد وجوهها وملامحها على نحو موضوعي موثق. ولذا فإنه من الحكمة الاكتفاء بالوقوف على وجه من وجوه هذا التأثير المستمر لكتاباته في مختلف الآداب والفنون والمعارف والعصور. وربما كان الدور الذي أدّاه دانتي في إشاعة شكل السوناتا Sonnet في الشعر الغنائي الأوربي، منذ أيامه وحتى يومنا هذا، من أبرز وجوه التأثير الدانتي في الأدب الغربي عامة، وهو ما يمكن أن يتضح من خلال مناقشة موجزة لسوناتات دانتي في ديوانه La Vita Nouva، (الحياةالجديدة)، ومن ثَمَّ تقديم دراسة عجلى للتأثير العربي-الإسلامي في شكلها من جهة، وفي محتواها وما يسودها من حساسيات نفسية وفنية مستلهمة من الثقافة العربية-الإسلامية من جهة أخرى. ولما كان هذا التأثير قد انتقل إلى دانتي عبر شعراء التروبادور الذين كانوا موضع إعجابه المستمر،  ومحاكاته، بل واقتباسه أيضاً، فإنه لا بد من الإشارة إلى صلات دانتي بهم، وإلى سبل لقاءاته بأناشيدهم التي خلبت ولا تزال، لب الجمهور الأوربي المولع بشعر الحب عبر القرون. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو كيف تم هذا الانتقال؟ 

لمتابعة القراءة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!

الدراسة الأدبية: مشروعيتها، طبيعتها، أشكالها

مجلة الموقف الأدبي، العدد 598، شباط 2021، ص ص 33-40

الأدب فن جميل، غايته الإمتاع وحده بالنسبة إلى بعضهم، والفائدة وحدها بالنسبة إلى بعضهم الآخر، وهناك من يرى أن غايته الإمتاع أولاً، والفائدة ثانياً، وخيره ما يشفع المتعة بالفائدة على حد تعبير الشاعر والناقد الروماني هوراس، ولذلك يرى بعضهم أن ليس ثمة مجال لدراسته، التي تبدو لهم قتلاً للجمال فيه – الجمال الذي خُلِق للمتعة والمتعة وحدها، والمتعة تُعاش، والجمال يُتذوق، ولا شأن للدراسة بهما. 

والواقع أن دراسة الفن-على خلاف ما يعتقد هؤلاء- تعمِّق فهمه ومن ثَمَّ ترتقي بعملية تذوّقه وتُوسِّع آفاق المتعة التي ينطوي عليها، وتُغني جوانب الفائدة التي يعود بها على قارئه. 

وثمة فريق من الأدباء والفنانين ممن يقصر رخصة دراسة الفن على نظرائهم، فالأديب، فيما يرَوْن، وحده من يملك إمكانية دراسة الأدب، والفنان وحده من يحق له تدبّر الفن، وهل ثمة من هو أكثر خبرة منه أيهما بالأدب والفن؟ وربما كان ما كتبه ميخائيل نعيمة، أحد عمالقة الأدب العربي الحديث خير إجابة على زعم هؤلاء الأدباء والفنانين. إذ يقول في غرباله معرِّضاً بمن لا يميزون بين طبيعة الممارسة الأدبية، وبين دراسة هذه الممارسة:

“من الناس كذلك من يقول-ويقول بإخلاص- إنه لا صلاحية لناقد أن ينقد شاعراً أو كاتباً أو ابنَ أي فن كان من الفنون إلا إذا كان هو نفسه شاعراً أو كاتباً أو من أبناء ذلك الفن. فجوابي لهؤلاء هو جواب أحدهم وقد سمع هذا الاعتراض عينه فقال: “أعليّ أن أبيض البيضة، إذن، لأعرف ما إذا كانت صالحة أو فاسدة” “.

وعلى الرغم من أن جواباً كهذا مفحم بما فيه الكفاية، غير أنه لا يمنع الكثيرين ممن لا يؤمنون بوظيفة الدرس الأدبي ورسالته ودوره في تطوير عملية الإنتاج الأدبي، من ترديد الاعتراض نفسه بصورة أو بأخرى. الأمر الذي يستوجب الحديث عن مشروعية دراسة الأدب أو الدراسة الأدبية.

لمتابعة القراءة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!