الدراسة الأدبية: مشروعيتها، طبيعتها، أشكالها

مجلة الموقف الأدبي، العدد 598، شباط 2021، ص ص 33-40

الأدب فن جميل، غايته الإمتاع وحده بالنسبة إلى بعضهم، والفائدة وحدها بالنسبة إلى بعضهم الآخر، وهناك من يرى أن غايته الإمتاع أولاً، والفائدة ثانياً، وخيره ما يشفع المتعة بالفائدة على حد تعبير الشاعر والناقد الروماني هوراس، ولذلك يرى بعضهم أن ليس ثمة مجال لدراسته، التي تبدو لهم قتلاً للجمال فيه – الجمال الذي خُلِق للمتعة والمتعة وحدها، والمتعة تُعاش، والجمال يُتذوق، ولا شأن للدراسة بهما. 

والواقع أن دراسة الفن-على خلاف ما يعتقد هؤلاء- تعمِّق فهمه ومن ثَمَّ ترتقي بعملية تذوّقه وتُوسِّع آفاق المتعة التي ينطوي عليها، وتُغني جوانب الفائدة التي يعود بها على قارئه. 

وثمة فريق من الأدباء والفنانين ممن يقصر رخصة دراسة الفن على نظرائهم، فالأديب، فيما يرَوْن، وحده من يملك إمكانية دراسة الأدب، والفنان وحده من يحق له تدبّر الفن، وهل ثمة من هو أكثر خبرة منه أيهما بالأدب والفن؟ وربما كان ما كتبه ميخائيل نعيمة، أحد عمالقة الأدب العربي الحديث خير إجابة على زعم هؤلاء الأدباء والفنانين. إذ يقول في غرباله معرِّضاً بمن لا يميزون بين طبيعة الممارسة الأدبية، وبين دراسة هذه الممارسة:

“من الناس كذلك من يقول-ويقول بإخلاص- إنه لا صلاحية لناقد أن ينقد شاعراً أو كاتباً أو ابنَ أي فن كان من الفنون إلا إذا كان هو نفسه شاعراً أو كاتباً أو من أبناء ذلك الفن. فجوابي لهؤلاء هو جواب أحدهم وقد سمع هذا الاعتراض عينه فقال: “أعليّ أن أبيض البيضة، إذن، لأعرف ما إذا كانت صالحة أو فاسدة” “.

وعلى الرغم من أن جواباً كهذا مفحم بما فيه الكفاية، غير أنه لا يمنع الكثيرين ممن لا يؤمنون بوظيفة الدرس الأدبي ورسالته ودوره في تطوير عملية الإنتاج الأدبي، من ترديد الاعتراض نفسه بصورة أو بأخرى. الأمر الذي يستوجب الحديث عن مشروعية دراسة الأدب أو الدراسة الأدبية.

لمتابعة القراءة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!

في دمج الأدب العربي بمتن “الأدب العالمي”

مجلة الموقف الأدبي، العدد 596، كانون الأول 2020، دمشق، سوريا، ص 15-22

يكتب روبن أوستل أستاذ الأدب العربي الحديث في جامعة أكسفورد شارحاً عدم بلوغ الأدب العربي مستوى الظاهرة ذات التأثير العالمي في بحثه المقدّم إلى مؤتمر “الأدب العربي والعالمية” الذي انعقد في القاهرة عام 1999، ونظمه المجلس الأعلى للثقافة ونشر وقائعه في كتاب حمل العنوان نفسه: 

“لسنا في حاجة، على مستوى القيمة الفنية والأدبية، إلى إهدار الوقت في مناقشة ما إذا كان الأدب العربي يمتلك أو لا يمتلك قيمة عالمية. من الواضح أنه يمتلك هذه القيمة، ومدرِّسو الأدب العربي واللغة العربية في الجامعات الغربية هم من بين القلائل الذين يدركون هذه القيمة، على حد سواء، في فجر الأدب العربي في شعر ما قبل الإسلام، وعند عمالقة العصر الذهبي في الفترة العباسية، وصولاً إلى الأدباء الذين ساهمو في نهضة وتطوير الأدب العربي منذ القرن الماضي. لقد درسناهم ودرّسناهم، ونحن نعرف قيمتهم العالمية، غير أن المشكلة هي في السؤال التالي: من غيرنا، خارج العالم العربي يعرف ذلك؟ عملياً، أستطيع أن أقول إن الأدب العربي ليس بأي معنى من المعاني ظاهرة أدبية ذات تأثير عالمي على المستوى الفعلي. لماذا أؤكد ذلك؟ ببساطة شديدة لأن الأدب العربي لم يدخل الحوار العام للنقد الأدبي على المستوى العالمي مثلما حدث، على سبيل المثال، مع أدب أمريكا اللاتينية” (التأكيد لصاحب هذه السطور) 

ومعنى هذا أن الترجمة وحدها لا تكفي جواز سفر للدخول إلى عالم الأدب العالمي، فضلاً عن أنها لا تستند في اختياراتها لما تتم ترجمته إلى معايير فنية وأدبية فقط، وثمة عوامل أخرى تحفزها تتصل بواقع العلاقات الدولية، والتطورات التي تشهدها على المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما أن للإعلام دوراً متنامياً في تعزيز انتشار الاهتمام ببعض الأعمال الأدبية المترجمة وغير المترجمة وتوسيع دائرة تلقيها من جانب القراء المختصين وغير المختصين ممن يهمهم متابعة التطورات الأدبية العالمية، والاطلاع على آخر نتاجات الآداب الأخرى. 

ومن ثَمَّ، فإن السؤال الملح الذي يطرح نفسه وبقوّة في هذا المقام هو:

ماالذي يمكننا،  نحن العرب، أن نفعله لإدخال الأدب العربي، المؤهل، بالقوة والفعل، لهذا الدخول، في دائرة الأدب العالمي؟

سؤال يراود كل غيور على هذا الأدب، وبخاصة عندما يستحضر في ذهنه الأيام الخوالي لهذا الأدب في العصور الوسطى، وكيف أنه، في منجزه الأندلسي، كان وراء نشأة معظم الآداب الأوربية الحديثة، وأنه أسهم في تشكيل العديد من أجناسها الأدبية.

قد يكون الجواب بسيطاً، غير أنه يشكل بالتأكيد تحدِّياً حقيقياً للأدباء والدارسين العرب، لأنه يتطلب  جهوداً مخلصة مثابرة تُسهِّل إدخاله بداية في متن الدراسات الحديثة في اللغات العالمية، ومن ثَم تيسِّر تبوَّأَهُ المكانة التي تليق به في دائرة الأدب العالمي.

ولكن كيف يمكن إدخال الأدب العربي قديمه وحديثه في متن الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة؟ وكيف يمكن أن نفيد في ذلك من المناخات التي خلقتها النظرية ما بعد الاستعمارية من جهة، والازدهار الملحوظ للدراسات المعنية بالأدب العالمي من جهة أخرى، خاصة وأن تلك النظرية، مشفوعة بالتوسع في آفاق دراسة الأدب العالمي، باتت تلتفت إلى آداب الأطراف، والآداب المهمَّشة، وآداب المنافي والهجرة، وآداب الجنوب الناطقة بغير لغاتها الأم؟

غير أن على المرء أن يذكِّر أن التوجه العام، الذي ينبغي أن ينظم ما يمكن أن يقوم به العرب في هذا المجال، هو أن يأخذوا بزمام المبادرة في دمج أدبهم بمتن الأدب العالمي، وأن يكون عملهم في هذا المضمار هو التيار الأساسي فيه، في حين تكون جهود الآخرين ممن يخدمون الأدب العربي من غير الناطقين بالعربية مجرد روافد تغني هذا التيار، وتعزز اندفاعته نحو مستقبل واعد. ومما يجب التنبُّه له أيضاً أن يكون هذا العمل عملاً مؤسسياً تقوم به مؤسسة حكومية مستقلة في تمويلها وإدارتها، حتى تتجنب معيقات البيرقراطية والأهواء السياسية، ولتتمكن من أن تخطط للعمل، وتشرف على تنفيذه، وتتابع هذا التنفيذ متابعة حثيثة، تضمن ثماره  الطيبة المرجوّة.

لمتابعة القراءة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!

ديفيد دمروش: إسهامه في نظرية الأدب العالمي

مجلة الآداب العالمية، العدد 182، ربيع 2020، دمشق

يخصص ثيو داهائين  Theo D’haenمحاضرته التي ألقاها في جامعة بوخارست بمناسبة منحه درجة الدكتوراه الفخرية في 15 نيسان 2011، للإجابة على سؤال مباشر هو: “لِم الأدب العالمي الآن؟”

ويربط نهوض هذا الأدب، وتجدد الاهتمام الدولي به في استدارة القرن الحالي، بحوادث أيلول عام 2000م التي طالت ثلاث مدن أمريكية: نيويورك و واشنطن وبنسيلفانيا، والتي جعلت الأمريكيين يحسون بجهلهم بـ “الآخر” العربي المسلم الذي فاجأهم وصعقهم، وولّد في نفوسهم رغبة محمومة في تعرّف هذا “الآخر” بالمعنى الأوسع للكلمة. ومن الطبيعي أن تكون آداب هذا الآخر خير وسيلة إلى تعرّفه وفهمه، واحتوائه إن اقتضى الأمر، والتعاون معه عندما يسمح الظرف الدولي بذلك، والتواصل معه، على أي حال، بغرض التأقلم مع مرحلة ما بعد هذه الحوادث التي غيّرت المشهد الدولي على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية إلخ.

وأطروحة البروفيسور داهائين هي أن هذا الأدب قد: 

“عُرِّف وأعيد تعريفه ليلائم حاجات أزمنة وأمكنة محددة، بالتوافق مع المصائر المتحوّلة لكيانات لغوية وثقافية محدَّدة على الخارطة العالمية” .

ومعنى هذا أن تجدّد هذا الاهتمام بـ “الأدب العالمي” في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة والغرب الأوربي وسائر أنحاء العالم المختلفة عامة، وعلى هذا النطاق الواسع، وإعادة النظر في تعريفه: طبيعةً ووظيفةً وحدوداً، ومناقشة طرق تدبّره: دراسةً وتدريساً وبحثاً علمياً ونشراً بين الناس، إنما نجمت عن التغيرات الخطيرة التي شهدها عالمنا في استدارة القرن الحالي، وبخاصة بعد تفجيرات أيلول عام 2000م في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها كانت استجابة طبيعية لمقتضيات الظروف الدولية الجديدة التي خلقت فُسحاً للمواجهة والتفاعل والاحتكاك بين الكيانات الإنسانية اللغوية والثقافية والاجتماعية والسياسية في عالم ما بعد حوادث أيلول – عالَم الألف الثالث الميلادي.

والحقيقة أنه عند النظر إلى ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوربي من نشاطات تتصل بالأدب العالمي والتي شملت ميادين نشر المختارات، والأدلّة، والكتب، والأبحاث، والدراسات والمقالات، وتنظيم المؤتمرات المعنية بشؤون هذا الأدب دراسة وتدريساً وإعادة نظر في تدبّر شؤونه المختلفة، وإقامة الندوات، والدعوة إلى المحاضرات العامة والخاصة التي تروّج له، يلاحظ المرء الحضور الواسع لاسم بارز فيها هو ديفيد دمروش أستاذ كرسي إرنست بيرنباوم للأدب في جامعة هارفرد الذي شارك بفاعلية كبيرة ونشاط واسع ومتنوع في مختلف وجوه هذا الاهتمام المتجدد بـ “الأدب العالمي”، والتي شملت:

لمتابعة القراءة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!

قصة “الحكايات اليتيمة” في الليالي العربية بين أنطوان غالان وحنا دياب

مجلة جامعة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية، المجلد 36، العدد الثالث 2020،

ثمة ما يشبه الإجماع على أن الإنجاز الأكبر لأنطوان غالان Antoine Galland (1646-1715)  كان ترجمته لكتاب ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية، وأن هذه الترجمة خلّدت اسمه في تاريخ انتشار الكتاب وتلقّيه في القارة الأوربية وما وراءها، وأسهمت في عملية دخول الكتاب إلى المركز من دائرة الأدب العالمي من جهة ثانية، وفي نشأة الحركة الرومنتية الأوربية من جهة ثالثة.

وثمة إجماع مماثل على أن القصص/الحكايات الأكثر رواجًا وشهرة وتداولًا بين قراء الليالي العربية، ومستثمريها من الفنانين والأدباء ومنتجي الأفلام الروائية ومخرجيها، والعاملين في ميدان المسلسلات التلفازية والإذاعية وناشري الكتب الشعبية، ولا سميا كتب الأطفال، ومنتجي أفلام الصور المتحركة، هي قصص “السندباد البحار“، وقصة “علاء الدين والمصباح السحري“، وقصة “علي بابا والأربعون لصًا“، فضلًا عن القصة-الإطار أو الحكاية- الإطار “شهريار وشهرزاد” التي يستشهد بها دارسو السرد على قوّة هذا الفن في دفع الموت عن شهرزاد، وفي تغيير سلوك شهريار، وإعادته إلى جادة الصواب! 

ويعرف معظم دارسي الليالي العربية أن الحكاية الأولى، أي “السندباد البحار”، التي اكتشفها غالان خلال رحلاته العديدة إلى الشرق الأدنى وترجمها ليظفر منها بنجاح منقطع النظير، كانت الحافز الأكبر في سعيه إلى الحصول على مخطوطة ألف ليلة وليلة من سوريا والشروع في ترجمتها، وأن حكايتي”علاء الدين والمصباح السحري“، و“علي بابا والأربعون لصًا“. لا تعودان إلى نسخة الليالي الأصلية، وأنهما تدخلان ضمن ما بات يعرف بالحكايات اليتيمة Orphan Tales  المتضَمَّنة في المجلدات 9-12 من الترجمة الفرنسية التي أنجزها غالان، والتي نشرت بين عامي 1712-1717، وأن المصدر الأساسي لهذه الحكايات، كما تبيِّن يوميات غالان، لم يكن غير الشاب السوري الحلبي حنا دياب، الذي أنقذ غالان- فيما يبدو – بعد أن نفد معين هذا الأخير من قصص ألف ليلة وليلة، ولم يعد لديه مزيد منها. ولكن غالان لم يصرّح في المجلدات التي ضمّت الحكايات اليتيمة المستمدَّة من حنا دياب، بدينه للرجل، ولم يذكره البتة، غير أن يومياته التي دونها بين 25 آذار، و25 تشرين الأول من عام 1709، والتي لم يعدّها للنشر، تُوثِّق، باعترافاته فيها، هذا الدين، وتفصِّله، بما تتضمنه من خلاصات لهذه الحكايات، بما في ذلك الحكايات التي لم يدرجها في تلك المجلدات المذكورة آنفًا، وما تشير إليه من وقائع تتصل بها. 

وترد أول إشارة إلى علاقة أنطون غالان بحنا دياب في يومية 25 آذار 1709، التي يشير فيها إلى الرجل الحلبي الذي التقاه في منزل صديقه بول لوكاس (1737-1664) Paul Lucas الرحالة والمستكشف الفرنسي، الذي جال الشرق الأدنى وشمالي إفريقية على نحو واسع مستعينًا بحنا دياب الذي رافقه مساعدًا ومترجمًا في ترحاله، ويذكر فيها أن حنا دياب حدّثه بحكايات جميلة جدًا، ووعده بتسليمها مكتوبة في وقت لاحق.

وبعدها تتتالى الإشارات بدءاً من 5 أيار حتى الثاني من حزيران، موثِّقة إسهام حنا دياب في المجلدات الأربعة الأخيرة من الليالي العربية:

ففي الخامس من أيار من عام 1709 سلم حنا دياب أنطوان غالان مخطوطة حكاية “علاء الدين“؛

وفي السادس منه حدثه بحكاية “قمر الدين وبدر البدور“؛

وفي العاشر منه حدثه بحكاية “الأعمى بابا عبد الله وتاريخ سيدي نعمان“؛

وفي الثالث عشر منه حدثه بحكاية “الحصان المسحور“،

وفي الخامس عشر منه حدثه بحكاية تدور حول ثلاثة أمراء نشؤوا في قصر من الكريستال، تشبه كثيرًا قصة الأختين الغيورَيْن من أختهما الصغيرة؛

وفي الثاني والعشرين منه حدثه بحكاية الأمير “أحمد والجنِّيّة بيري بانو“؛

وفي الثالث والعشرين منه حدثه بحكاية “الأمراء الثلاثة والجنِّيّ مورهاجيان“، وهي الحكاية نفسها التي لفق لها دوم دينيس شافيز Dom Denis Chavis نسخة عربية؛

وفي الخامس والعشرين منه حدثه بحكاية “الأختان الغيوران من أختهما الصغرى“؛

وفي السابع والعشرين منه حدثه بحكاية الإطار الرئيسية “تاريخ الملك أزاد بخت وابنه” أو “الوزراء العشرة“، وحكاية “علي باب والأربعون لصًا“؛

وفي التاسع والعشرين منه حدثه بحكاية “تاريخ الخواجا حسن الحبال“؛

وفي الحادي والثلاثين منه حدثه بحكاية “الخواجا علي والتاجر البغدادي“؛

وفي الثاني من حزيران من العام نفسه حدثه بحكاية أخرى لم تنشر.

وقد صدر حنا دياب، في مجموع الحكايات هذه، كما يؤكد معظم باحثي الليالي العربية، عن الذخيرة السردية للشرق الأدنى ونظيرتها الأوربية.

أما آخر إشارة في يوميات غالان يتناول فيها علاقته بحنا دياب، فترد في يومية 25 تشرين الأول، ويذكر فيها أنه تلقى رسالة من حنا دياب يعلمه فيها بوصوله إلى مارسيليا التي كانت المحطة الأولى في رحلة عودته إلى حلب.

شكرا على تصفحك واهتمامك بهذه المادة. لقراءة كامل المادة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!

رسالة ابن طفيل “حي بن يقظان” في دائرة الأدب العالمي

مجلة التراث العربي، دمشق، اتحاد الكتاب العرب، العدد 154، صيف 2019، ص ص 129-142

ثمة مايشبه الإجماع بين باحثي الشرق والغرب على أن حي بن يقظان، الرواية الفلسفية الفريدة يمكن أن تعدّ أنموذجاً فذاً من النماذج الرفيعة للقصّ الشرقي العبقري-أنموذجاً صنعه فيلسوف من غرب العالم الإسلامي، هو ابن طفيل الأندلسيّ (المتوفّى عام 581ه/1185م) الطبيب والفقيه والأديب ومستشار الخليفة في آن معاً، والذي تَمَثّل فيه موروثَ القص الشرقي، وبخاصة قصتي ابن سينا “حي بن يقظان” و”سلامان وأبسال” اللتين استعار منهما عنوان روايته وشخصيتيهما الرئيسيتين، والموروثَ الفلسفي العربي-الإسلامي في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فكان عمله حصيلة رائعة لجهد تراكمي قائم على استيعاب الموروث وإعادة تشكيله وفق رؤية جديدة، هي إضافته النوعية لهذا الموروث. وقدم كل ذلك في قالب رواية فلسفية قصيرة حملت العنوان نفسه “حي بن يقظان“، عمل على تشكيلها خمس سنوات، فخرجت على يديه درّة لا نظير لها في الأدب العربي، ومعلماً بارزاً في تاريخ الأدب العالمي، إذ كان لها، منذ إنجازها، تاريخ أدبي فريد، فقد تجاوزت في تداولها زمن تأليفها، مثلما تجاوزت الأندلس في انتشارها في شرق العالَم وغربه، وتخطّت اللغة التي أُلِّفت بها فتُرجِمت إلى مختلف لغات العالم، واندمجت في ثقافاتها. وكان جواز تنقلها في العالمين القديم والحديث ما تنطوي عليه من فكر إنساني عميق، طالما شاغَل الكائن البشري الباحث عن نفسه وعن موقعه في هذا العالم وعن علاقته بخالقه.

لقد تحوّلت هذه الرواية الفلسفية القصيرة إلى مركز جذب وإشعاع في تاريخ الأدب العالمي: تجتذب من ناحية صفوة العقول البشرية، وتحفز تفكيرها، وتنشر من ناحية أخرى ضوع فنها، ونور استبصاراتها، في مختلف فنون القول، بل الفن عامة، وتمضي من الفن إلى الفكر والفلسفة تنشر التنوير في العالم الغربي الخارج من العصور الوسطى.

نعم لقد غدت هذه الرواية الفلسفية مصدر إلهام لكبار الأدباء في العالم الذين متحوا من محتواها الغني، وكان رائدهم في ذلك الروائي الإنكليزي دانييل ديفوDaniel Defoe ، الذي استلهم روايته روبنسون كروزو Robinson Crusoe من رائعة ابن طفيل، ثم لحق به روديارد كيبلنغ Rudyard Kipling (1865-1936) الذي ألف كتاب الغابة The Jungle Book (1894) والذي يحكي قصة ماوغلي Mowgli، وإدغار رايس بوروز Edgar Rice Burroughs (1875-1959) الذي ألف كتاب طرزان (1912)، ويان مارتل Yann Martel (المولود عام 1963) والذي ألف حياة بي Life of Pi عام 2001، وغيرهم. 

أما بالنسبة إلى تأثير الرواية  في الشعراء الرومنتيين البريطانيين فقد كان في غاية الأهمية، وهاهي سمر عطار، أبرز دارسي تأثير ابن طفيل في الفكر الغربي في عصر التنوير، تؤكد ذلك، مبينة كيف أن الشعراء الرومنتيين الإنكليز: 

“ولا سيما بليك Blake، ووردزوورثWordsworth ، وشيلي Shelly ، رددوا صدى هذه المشاعر في التزامهم بمبدأ الطبيعة الخيِّرة للإنسان، وأهمية التأمل المنفرد في الطبيعة، والبحث عن السعادة الروحية. وبهذا المعنى  فإن الشعراء الرومنتيين لم يثوروا على نحو كلي على أسلافهم. ويبدو أنهم قد اشتركوا وبحق في عدد من المبادئ مع ثقافة عصر التنوير. فمن المرجح أن ووردوورث قد تعلم من حي بن يقظان كيف يجعل النفس ذاتاً في شعره، وكيف يمجّد الطفل بوصفه أباً للإنسان، وكيف يكون متفائلاً بالمستقبل. ومن ناحية أخرى فإن من المرجح أن يكون شلي قد تعلّم من هذا الكتاب العربي كيف يلح على المساواة بين البشر كلهم، وكيف يسائل جميع الديانات التقليدية. ومع أن بليك هاجم العقلانيين في بداية حياته، وسخر من فولتيير وروسو، فإنه صحح موقعه في طور لاحق. فالعقل والحدس بالنسبة له، تمامأً كما هما بالنسبة لوردوورث وشلي، ينبغي أن يتوحدا بغرض الوصول إلى فهم أفضل للعالم”.

وعلى النحو نفسه “كانت رواية ابن طفيل، وكما يؤكد سِبَستيان غونْتر، مصدر افتتان عظيم بالنسبة للعلماء اليهود والمسيحيين في أوربا، وقد لاحظت دراسات حديثةُ العهد أن موسوعيين من أمثال ألبرتوس ماغنوس Albertus Magnus (1220-1280)، وتوماس الأكويني Thomas Aquinas (1225-1274)، وفولتير Voltaire(1694-1778)، وروسو  Rousseau(1712-1778)، وديدرو Diderot  (1713-1784) عرفوا عملَ ابن طفيل وقدَّروه حق قدره”. وكذا الشأن بالنسبة للكاتب الألماني غوتولد إفراييم ليسينغ Gotthold Ephraim Lessing (1712-1778)، الذي اطلع على رواية ابن طفيل بترجمتها اللاتينية وأفاد منها في معالجته الموسومة بـ “في أصل الدين الموحى” “Ueber die Entstehung der geoffenbarten Religion”. لقد وجد الجميع المصدر الملهِم لفكرة البحث عن الحقيقة والحق، عن الخلْق والخالق، وجسّدوها في صور في غاية التنوع والغنى.

شكرا على تصفحك واهتمامك بهذه المادة. لقراءة كامل المادة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!

الدكتور ممدوح خسارة وعنايته بالعربية الراهنة

مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد 92، 2019، الجزءان 3-4، ص ص 527-533

لا يسع المتتبع لما ينشره الدكتور ممدوح خسارة في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق وغيرها إلا أن يغبط الرجل على نشاطاته واهتماماته بحال العربية الحديثة والمعاصرة، ولا ريب أن مسعاه الراهن إلى إكمال بعض مواد المعجم العربي مسعى نبيل ووجيه وله الكثير مما يُسوِّغه، وهو كذلك بحاجة إلى شجاعة كبيرة لا تنقصه. فاللغة –أية لغة- إنما هي بالناطقين بها، وعنايتهم المستمرة بها هي ما يجعلها حيّة فاعلة في حياة الأمة، بوصفها أداة التفكير، والتعبير، والتواصل فيما بين أبنائها، ومع تراثها، وما دُوِّن بها من مواريث الأمم الأخرى.

وقد تيسّر لي الاطلاع على آخر ما خطه يراعه في بحثه (الثالث) مما يتصل بمادة علم وغيرها، ونُشِر في الجزء الثالث من المجلد التسعين من مجلة مجمع اللغة العربية، والذي يقترح فيه إضافة بضعة وعشرين مدخلا يكمل به مادة “علم”.

لقد وجد الدكتور خسارة أن “ثمة كلمات جديدة من أفعال وأسماء دخلت اللغة العربية المعاصرة وَفق أبنية عربية، ولكن بدلالات محدثة لم تكن لها عند القدماء، مثل فعل (اعتقل، انعدم، أزم، حاسوب). ونظراً لشيوعها، فإن الحاجة تدعو إلى دراسة كل منها على حدة، ولاسيما الأفعال، لمعرفة مدى صلوحها لدخول المعجم العربي، بعد أن دخلت ميدان الاستعمال اللغوي. وإذا كان بحثنا سينصب على الأفعال، فذلك لأن إقرارها يستتبع مشتقاتها من أسماء فاعلين ومفعولين وسائر الصفات” (ص 583).

هذا وقد أحصى الكتور خسارة، عند العودة إلى معجمين رأى فيهما مُمثِّلين للمعاجم العربية والحديثة، أولهما قديم هو”تاج العروس” للزبيدي، وثانيهما حديث هو “المعجم الوسيط” الذي صنعه مجمع اللغة العربية في القاهرة، نحواً من ستة وخمسين مدخلاً مأخوذاً من الجذر “علم”. وتبين له مِن تَتَبُّعه للاستعمال اللغوي المعاصر أن “ثمة سبعة وعشرين مدخلاً تتضمن نحو ستين دلالة جديدة، منها ما هو جديد تماماً بناء ودلالة، مثل (عَوْلَم، والعَلْمَنة)، ومنها مااكتسب دلالات إضافية على ما كانت له، مثل (الإعلام والمَغْلَم). واستناداً إلى ماتقدم فإنه يقترح سبعة وعشرين مدخلاً لإكمال مادة “علم”.

شكرا على تصفحك واهتمامك بهذه المادة. لقراءة كامل المادة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!

من الأدب المقارن إلى الأدب العالمي

مجلة الآداب العالمية، العدد 180، دمشق، خريف 2019، ص ص 21-24

على الرغم من أن إدوارد سعيد كان على مدى أربعين عاماً يُدرِّس الأدب الإنكليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، فإنه بمنظوره الطباقي contrapuntal perspective قد وأد الدرس المقارن للأدب الذي ساد في أيامه، عندما دمج “الآخر/غير الغربي” في منظوره الطباقي، ودعا إلى الإصغاء إلى صوته الخافت الذي تجاهلته المركزية الغربية، وإلى تظهيره بغرض إعادة الوحدة إلى المقاربة المقارِنة للأدب، ضمن إطار ما بات يعرف بـ “النظرية ما بعد الاستعمارية“، والتي دشن جدواها بكتابه الاستشراق (1978)، وعزز حضورها في المشهد النقدي الأمريكي خاصة، والعالمي عامة، بكتابه الثقافة الإمبريالية(1993) ، فضلاً عن كتبه ومقالاته الأخرى. وعندما خلفته غاياتري شاكرافورتي سبيفاك في النهوض برسالة الدرس المقارن للأدب في جامعة كولومبيا، أعلنت بكتابها موت علم (2003) وفاة الدرس المقارن للأدب بالطريقة التقليدية، والتي نبذها سعيد بسبب مركزيتها الغربية، ودعت إلى أدب مقارن جديد يجمع ما بين الأدب المقارن وبين دراسات المنطقة Area Studies ، ممهدة بذلك الطريق نحو إعادة نظر جذرية في تصور الدرس المقارن للأدب، وبخاصة صلته بالأدب العالمي الذي عانى على مدى ما يقرب من قرنين من المركزية الغربية Western Centrism . وهكذا شهدت التسعينيات في القرن الماضي تفكيراً جديداً في الأدب المقارن أعاد فيه منظِّروه “الأدب العالمي” إلى المركز في الدراسات المقارنة، حتى غدا الدرس المقارن للأدب مجرد ممارسة في دراسة الأدب العالمي تؤكد ما سبق إليه ويليك عندما أصرّ على أن الأدب المقارن ليس غير دراسة الأدب من منظور عالمي يتجاوز الحدود اللغوية والسياسية والعرقية لهذا الفن الجميل

وتجدُّدُ الاهتمام هذا الذي بدأ في عقد التسعينات من القرن الماضي، كما يشير إلى ذلك تيو داهائين D’haen Theo وسيزر دومينغز Dominguez    Cesar ومادس روزندال تومسِن Mads Rosendahl Thomsen في “مدخلهم” إلى المجلد الجامع للبيانات المتصلة بـ “الأدب العالمي“. تجلّى بدفق هائل، يكاد يشبه الانهيار الثلجي، للمختارات والكتب والدراسات والمقالات المعنية بالأدب العالمي، وبنشاطات ثفافية وأكاديمية غنية متنوعة، مثلما تجلّى بالمحاولات العديدة لإعادة تعريفه انطلاقاً من حوارات معمقة ومناقشات واسعة وقراءات مختلفة لبيانات غوته عن الأدب العالمي، والسعي، في الوقت نفسه إلى تطوير مقاربات جديدة لنصوصه ومسائله التي تثيرها هذه البيانات. 

وفي مسعى مشكور لتفسير تجدد هذا الاهتمام يقترح محررو هذا المجلد عاملين مهمين (على الرغم من وجود عوامل أخرى أقل أهمية)، يكمنان وراءه، وهما:

  • العولمة  Globalization وما خلفته من آثار في مفهومي الثقافة والهوية، خاصة وأنه، في ظل التوسع الهائل في مجالات التبادل الثقافي، باتت الحاجة ملحة للنظر في دور الأدب ووظيفته خارج حدود الدولة القومية، وخارج ما ارتبط  بها من “أدب قومي”، غدا بدوره موضع مساءلة شديدة .
  • وإعادة التنظيم الداخلي للدراسة الأدبية في أقسام اللغات القومية والأجنبية في الجامعات الغربية بتحفيز من العولمة من جانب والنظريات الفكرية والنقدية والأدبية التي شهدها ما يسمى عصر النظرية من جانب آخر.

فقد كان “الأدب العالمي” يُدرّس في أقسام الأدب المقارن، ويدرج في برامجه، أو في أقسام اللغات الحديثة، غير أن هذه الأقسام لم يكن لها من سعة الصدر ما يكفي لاحتواء الأدب العالمي، ومن ثَم فإنها أخفقت إخفاقاً ذريعاً في مهمتها في دراسة آداب العالم، بسبب الحجم الهائل لنصوص هذه الآداب من جهة، وبسبب من ضعف اهتمامها بالآداب الصغيرة، آداب الجنوب والشرق والعالم الثالث عامة، والتي تُركت العناية بها إلى الأقسام المختصة بلغاتها وثقافاتها، أو أقسام ومراكز الدراسات الإقليمية، أو دراسات المنطقة، من جهة أخرى. وهكذا انتهى المطاف بأقسام الأدب المقارن واللغات الحديثة بالأدب العالمي إلى قصرالعناية بهذا الأدب على مجموعة مختارة من روائعه المترجمة إلى الإنكليزية بشكل خاص، والمتمركزة حول الذات أو الذوات الغربية. علما أن كثرة متزايدة من نصوص آداب العالم غير الغربية قد أخذت طريقها إلى لغات العالم الأول عن طريق الترجمة وأصبحت ميسورة بالإنكليزية والفرنسية والألمانية وسواها، ولكنها ظلت، مع ذلك،  خارج دائرة الأدب العالمي التي اقتصرت في معظمها على الآداب الغربية.

شكرا على تصفحك واهتمامك بهذه المادة. لقراءة كامل المادة يمكن تحميل الملف بالضغط على رابط التحميل في أعلى الصفحة!